هناك
نوعان من الشروط لقيام مجتمع مدني حقيقي وهي شروط مادية وأخرى معنوية
الشروط
والخصائص الماديـة
أ - المؤسسات المتعددة
يستلزم قيام المجتمع
المدني وجود مجموعة من المنظمات والمؤسسات والهيئات
التي تعمل في ميادين
مختلفة باستقلال عن حكومة الدولة مثل الأحزاب
السياسية التي تسعى
للوصول إلى السلطة والمشاركة في صنع السياسات،
والنقابات التي تدافع عن
مصالح أعضائها الاقتصادية وتسعى لرفع مستوى
المهنة، واتحادات الكتاب
والجمعيات العلمية والثقافية التي تسعى إلى نشر
الوعي بأفكار وآراء
معينة، والجمعيات الخيرية التي تسهم في أغراض التنمية
الاجتماعية،
والمنظمات التي تهتم بالدفاع عن قضايا معينة كالديمقراطية
وحقوق الإنسان
وحقوق المرأة، والأندية الرياضية والترفيهية… وغيرها .
هذا الركن
المادي في تكوين المجتمع المدني يعكس الانقسامات المختلفة
والمتعددة في
المجتمع، كما يسعى إلى تحويلها إلى علاقات تعاون وتكامل
وتنافس سلمي
شريف بدلاً من الصراع والتناحر الذي يؤدي إلى تقسيم المجتمع
وتفتيت
وحدته .
وعلى ذلك، فإن المجتمع المدني ليس كتلة واحدة أو متجانسة لا
توجد بها أي
اختلافات أو انقسامات، وإنما هو يتكون من جماعات تتسم
بالتعدد والتنوع
ولكنه يهدف إلى تحقيق التوفيق والتراضي بينها.
ب
– المـوارد
كذلك تعد الموارد التي تمتلكها المؤسسات والجمعيات المكونة
للمجتمع
المدني، سواء كانت موارد معنوية أو مادية، من أهم متطلبات قيامه
بدوره
السياسي والاجتماعي وإدارة علاقته بالدولة بما يضمن استقلاله في
مواجهتها .
أما إذا كانت الموارد شحيحة أو قليلة فإن المجتمع المدني قد
يضطر إلى
اللجوء إلى الحكومة لطلب العون والمساعدة والتي يتبعها التدخل
الحكومي في
شئون المنظمات التي تحصل على الدعم الحكومي كما يفتح أبواب
الفساد الذي
يصبح كالسوس الذي ينخر عظام المجتمع ويؤدي إلى انهياره.
الشروط والخصائص المعنوية والأخلاقية
وتعد
تلك الشروط أهم من الشروط المادية ولكنها أصعب في الحصول عليها.
فالأهم
من وجود المؤسسات وجود مبادئ وقيم تحكمها بما يضمن تحقيق الهدف من
وجودها.
فلو تصورنا أننا قمنا ببناء عمارة جميلة ولكن سكانها لم يلتزموا
بمبادئ
الجيرة والتعاون ربما يؤدي ذلك إلى انهيار العمارة فوق رؤوسهم
جميعاً
ولذا، نتناول بتفصيل أكبر تلك الخصائص والصفات التي يجب أن تتحلى
بها
وحدات المجتمع المدني :
أ – الاستقـلال
ونعني به أن تكون هناك
حدود واضحة لتدخل السلطة في المجتمع تحترمها الدولة
وتلتزم بها، بحيث
يتسع مجال الحركة الحرة المتاح للجماعات المختلفة ولا
تتدخل فيه الحكومة
إلا بمبررات ويقبلها المحكومون برضاهم .
ب – الحريـة
فلن يكون
للمجتمع المدني وجود دون تمتع الأفراد بحرية الاختيار والتعبير
عن
الإرادة. وبينما تفرض الدولة جنسيتها وقوانينها على كل من يولدون على
أرضها
دون استشارتهم أو سؤالهم، حيث يولد الفرد ليجد نفسه حاملاً لجنسية
معينة
بحكم الميراث، نجد أن هذا الفرد يسعى للانضمام إلى التنظيمات
والجمعيات
باختياره وبإرادته الحرة لتحقيق غاية معينة كالدفاع عن مصلحة أو
قضية
معينة تهمه .
ج - التراضي العـام
حيث يتم تأسيس وحدات المجتمع
المدني بالالتزام بقواعد الدستور والقانون
وما تكفله من حماية لحقوق
الأفراد في التعبير والتصويت والمشاركة في مناخ
مفتوح لتبادل الآراء.
تلك الشروط القانونية لتأسيس الجمعيات إذا تم وضعها
بالاتفاق والتراضي
بين مختلف التيارات في المجتمع، كان ذلك دليلاً على
توافر الحرية
والديمقراطية. أما إذا فرضتها سلطة أو فئة معينة على
الآخرين، فإن ذلك
يعني عدم وجود مجتمع مدني حقيقي .
ومما تجدر ملاحظته أن هذا الشرط يميز
المجتمع المدني عما عداه من تجمعات
وكيانات اجتماعية. فالمؤسسات
التقليدية كالأسرة والقبيلة والعشيرة مثلاً
ليست تجمعات منظمة بفعل
الإرادة البشرية وإنما هي نتيجة لتطور طبيعي
تلقائي ليس للإنسان دخل
كبير فيه. أما إذا ما اكتسبت تلك التجمعات صفة
التنظيم وأصبح انتماء
الفرد لها يتوقف على الاختيار الحر بدلاً من
الإجبار، كما صارت تقبل
الدخول في منافسة سلمية مع غيرها من التجمعات
للحصول على مزيد من
الأنصار من خلال الاشتراك في حوار مفتوح مع الجماعات
الأخرى لتبادل
الآراء والأفكار المختلفة دون محاولة فرض رأي بعينه، فإنها
تعد بذلك
جزءاً من المجتمع المدني .
فالشكل الذي يوجد عليه التجمع ليس هو المهم،
وإنما يعد سلوك الجماعة
والمبادئ التي تسير عليها هو الأهم. وعلى رأس
هذه المبادئ نبذ التعصب
والتطرف وقبول حق الجميع في الاعتقاد فيما
يشاءون لكم دينكم ولي دين .
د - احترام النظام والقانون القائم
فقيام
مجتمع مدني حقيقي يستلزم وجود دولة قادرة على فرض القواعد القانونية
وحماية
الحقوق التي ينص عليها الدستور بالنسبة للأفراد والجماعات. وبدون
هذا
الدور للدولة سيتحول المجتمع المدني إلى كيان أجوف خالٍ من أي معنى
حقيقي،
بل الأخطر من ذلك أنه قد يتحول إلى عدو يهدد حريات الأفراد بشكل لا
يقل
خطورة عن تهديد الحكومة المستبدة في غياب الديمقراطية .
وكما رأينا فإن
قوة المجتمع المدني لا تستغني عن وجود دولة قوية تحكمها
سلطة
ديمقراطية. والقوة كصفة للدولة لا تعني الاستبداد، وإنما تعني القدرة
على
الاستجابة لاحتياجات ومطالب المحكومين كما أن قوة المجتمع المدني لا
تعني
خروجه على النظام أو القانون القائم وإنما ترتبط قوته بالتزامه
واحترامه
لقواعد اللعبة السياسية السائدة. وهذا الالتزام يثير التساؤل حول
موقف
المجتمع المدني من التغيير، وهل هو أداة للحفاظ على النظام ؟ وهل
يعني
ذلك الجمود وعدم التغيير ؟ أم أن المجتمع المدني يصلح كوسيلة للتغيير
؟
الحقيقة أنه من الوارد أن يطالب المجتمع المدني بتغيير الأوضاع القائمة
وهذا
ما يشير إلى صفة أخرى للمجتمع المدني .هـ -
التغيير والتنافس بالوسائل السلمية
عندما يسعى المجتمع المدني للتغيير
فإنه لابد أن يظل ملتزماً بالوسائل
والقنوات السلمية في ممارسة نشاطه
بدءاً بالتعبير عن الرأي مروراً
بالمطالبة بالتغيير وانتهاءً بالاشتراك
الفعلي في عملية التغيير .
ونقطة البداية هي قبول وحدات المجتمع المدني
للقواعد القانونية وللنظام
السائد ولمبدأ العمل في إطاره ومحاولة تغييره
سلمياً دون الخروج عليه أو
استعمال العنف ضده. أما إذا حدث العكس بأن
تسعى إحدى الجماعات إلى قلب
النظام أو الثورة عليه فإن ذلك يخرجها من
إطار المجتمع المدني.
صحيح أن معارضة الحكومة وتوجيه الانتقادات إلى
سياساتها وقراراتها هو من
صميم وظيفة محاسبة المجتمع المدني للدولة إلا
أن ذلك لا يجوز أن يصل إلى
حد السماح لتلك الجماعات بالإطاحة بها أو
إسقاطها أو بمحاولة إحلالها
بحكومة أخرى. فالمجتمع المدني يجب أن يسعى
إلى الإصلاح وتصحيح الأخطاء
الحكومية والمطالبة بتعديل السياسات من خلال
التنبيه إلى أوجه القصور ووقف
الممارسات التي تتعدى على حقوق الأفراد
بالكشف عن الأخطاء ومحاسبة الحكومة
عليها، وليس بالثورة أو الانقلاب
بهدف هدم النظام القائم وتدميره بشكل
جذري .
غير أن هناك اتجاها آخر
فى دراسة المجتمع المدنى يرى أن التغير الجذري
للقانون والنظام القائم
قد يكون هدفاً مشروعا ومقبولاً في حد ذاته. ولكن
أسلوب تحقيقه يجب أن
يظل ملتزماً بالوسائل والقنوات والأدوات السلمية لكي
يظل مقبولاً أما
إذا ما لجأت إحدى مؤسسات المجتمع المدني إلى استخدام
العنف والقوة
المادية بهدف تغيير النظام فإنها تخرج بذلك من المجتمع
المدني وتحرم من
عضويته .
و - الشعور بالانتماء والمواطنة
والحقيقة أن
هذا الشرط يعتبر من أهم العناصر لتحقيق التماسك والترابط
لإيمان
الأفراد بأنهم يتمتعون بهوية مشتركة وأنهم قادرون على الدفاع عنها
وحمايتها
مقابل أداء واجباتهم والتزاماتهم نحو الدولة. فلكي يطيع الجزء
الكل
لابد أن يعبر الكل عن مطالبه واحتياجاته. فالمواطنة بمعناها الحقيقي
هي
مجموعة الحقوق والمسؤوليات التي تربط الأفراد بالدولة على قدم المساواة
وبغض
النظر عن الاختلافات بينهم ، وهي مصدر شعور الأفراد بالولاء
والانتماء
بما يشجعهم على الاهتمام بالشئون العامة وتوجيه الانتقادات
للسياسات
الحكومية والسعي للتأثير عليها .
وهذه الرابطة المعروفة بالمواطنة هي
مفتاح تحقيق التماسك في المجتمع ككل،
حيث تغرس مشاعر الانتماء إلى
الجماعة الصغيرة في الشعور بالولاء للجماعة
الكبيرة. ولكنه تماسك وتضامن
تلعب فيه الإرادة الشخصية الدور الرئيسي لأنه
مبني على الاتفاق الذي
دخله الأفراد باختيارهم الحر لتأسيس منظمات وجمعيات
تدافع عن مصالحهم
الخاصة وتلتزم بالعمل في حدود النظام والقواعد القانونية
المحددة للسلوك
بحيث تحقق أهدافها بالوسائل السلمية المقبولة والمسموح بها
دون اللجوء
إلى استعمال العنف وهو ما يعني الحفاظ على استقرار المجتمع .
غير أن
تحقيق الاستقرار لا يعني القضاء على الاختلافات وإنما الإبقاء
عليها
واحترامها مع معالجتها بالوسائل السلمية الشريفة بدفع الأفراد
والجماعات
إلى التغلب على مشاعر الأنانية السلبية والتضحية بالجهود
والتطوع في
سبيل الآخرين والقيام بالمبادرة الإيجابية للانتقال من
اللامبالاة إلى
الاهتمام دون تعصب بالشئون العامة .
ز - التسامح :
التسامح هو
الذي يجعلنا نطلق صفة مدني على المجتمع. فالمجتمع الذي تسوده
روح
المدنية هو المجتمع الذي يقبل فيه الأفراد والجماعات وجود آخرين
يختلفون
معهم في الرأي والمصلحة، كما يحترمون حقوقهم في التعبير عن وجهات
نظرهم،
كما يعني اعتراف الجميع بأنه ليس هناك أي طرف يمتلك وحده الحقيقة
وأن
تعدد واختلاف الآراء والاتجاهات هو ظاهرة طبيعية وصحية. أما التنافس
فهو
ليس عيباً يقلل من تضامن المجتمع ووحدته كما أنه ليس مشكلة إلا إذا
تحول
إلى صراع عنيف. وهذا يحدث في حالة خروج أطراف المنافسة على القواعد
القانونية
التي تحدد لهم القنوات السلمية للمشاركة والقواعد المقبولة
والجائزة
للسلوك .
أما إذا ارتبط التعدد بالتسامح والتعايش السلمي بين الأطراف
المختلفة،
فإنه يتحول من سبب محتمل للانقسام والصراع والتمزق والتفكك
إلى عامل أساسي
وراء تعاون وتضامن الجماعات والأفراد وتماسك المجتمع
وتحضره ورقيه .
ومن المهم هنا توضيح أن التسامح مطلوب كمبدأ ليس فقط في
العلاقات
والتعاملات السياسية والاجتماعية بين الحكام والمحكومين ولكن
أيضا بين
الأفراد والجماعات وبعضهم البعض. فكيف يطالب المجتمع المدني
حكومته
بالتسامح معه واحترام حقه في الاختلاف معها ونقدها لو لم يكن هو
نفسه
يسوده التسامح بين وحداته وعناصره المكونة له ففاقد الشىء لا
يعطيه. ولا
شك أن انتشار أمراض التعصب والتطرف وضيق الأفق داخل المجتمع
المدني قد
يؤدي إلى دفع الدولة بدورها نحو عدم التسامح مع الاختلاف لأنه
أصبح خطراً
يهدد استقرار الأمن والنظام في المجتمع ككل. فالعنف لا يولد
إلا مزيداً من
العنف .
ج - الديمقراطية داخل المجتمع المدني
أي
جماعة مهما بلغت درجة تماسكها سيظل بها قدر من الاختلاف والتعدد بين
عناصرها.
صحيح أن هناك مصلحة أو أهداف مشتركة اجتمع عليها الأفراد كأرضية
مشتركة
بينهم لتأسيس الجماعة، إلا أنه تبقى مصالح وأهداف شخصية وخاصة لدى
كل
منهم. هذا التنوع والاختلاف داخل الجماعة لابد أن يتم التعامل معه على
أنه
مصدر للثراء يزيد من قوة الجماعة ككل إذا ما سمح له بالتعبير عن نفسه
علناً
بدلا من كبته أو إخفائه أو التظاهر بعدم وجوده. ولابد أن تستمع
القيادة
داخل كل منظمة أو جمعية إلى بقية الأعضاء وأن تستشيرهم فيما تتخذه
من
قرارات بشأن الجمعية وأن تتقبل ما يوجهونه لها من انتقادات تساعدها على
تصحيح
الأخطاء، والأهم من ذلك أن تأتي تلك القيادة باختيار الأعضاء لها من
خلال
انتخابات حرة ونزيهة تتيح المنافسة المفتوحة والشريفة أمام الجميع
بحيث
يتمتع أعضاء أي منظمة داخل المجتمع المدني بحق التصويت والترشيح
والمشاركة
في صنع القرار الداخلي لتلك المنظمة. أما التعامل بأسلوب الكبت
والقمع
وغياب الديمقراطية داخل المنظمة بحجة الحفاظ على تماسكها فإنه قد
يقود
المختلفين إلى الانفجار ويصبح البديل الوحيد المتاح لهم هو الانفصال
الكامل
عن الجماعة .
وكما يتضح فيما سبق، فإن الركن الأخلاقي والمعنوي يعد هو
أساس وجود
المجتمع المدني. فالعبرة ليست بوجود منظمات أو مؤسسات وهيئات
متعددة من
ناحية الكم إذا كانت لا تعبر عن جوهر المجتمع المدني من
الناحية الكيفية
أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى التزامهم في تعاملهم
مع بعضهم البعض بقيم
ومبادئ الحوار والتسامح والتنافس السلمي وقبول
التعدد والاختلاف واحترام
حقوق المعارضين والمختلفين ونبذ العنف ورفض
استعماله. ففي هذه الحالة لا
تكون تلك القيم مجرد شعارات ترفعها
الجماعات، وإنما مبادئ حاكمة فعلاً
لسلوكها وأفعالها وهذا هو معيار
الصدق، كما أن ديمقراطية المجتمع المدني
هي شرط أساسي لديمقراطية
المجتمع ككل .
وهكذا فإن هذه الشروط والصفات الأخلاقية هي بوابة الدخول
إلى المجتمع
المدني. فرغم ما ذكرناه من أن منظمات المجتمع المدني تعبر
عن مرحلة أكثر
تقدماً ورقياً مقارنة بالتنظيمات الاجتماعية السابقة
والتي تقوم على
الروابط الأولية والطبيعية الموروثة، إلا أن هذه
التنظيمات قد تتحول أيضا
إلى جزء لا يتجزأ من المجتمع المدني ويتم
قبولها في إطاره في حالة
التزامها بمبادئ هذا المجتمع ووفائها بشروطه
المعنوية بغض النظر عن
اختلافها عنه في الشكل. فالقبيلة والعشيرة
والجماعة الدينية والمذهبية
والطائفية قد تصبح من مكونات المجتمع المدني
إذا قبلت التعدد والاختلاف
وتوقفت عن إدعاء أنها وحدها تملك الحقيقة
كلها واتجهت بدلاً من ذلك إلى
الدخول في حوار سلمي لتبادل الرأى مع
غيرها من الجماعات فهي عندئذ تصبح
صالحة للقيام بدور الوسيط بين الحكومة
والأفراد في حدود ما يسمح به
القانون .